فلسطين

لا صوت يعلو فوق صوت «نتساريم»

على مدى الأشهر الماضية، لا يكاد يمر يوم دون أن تستهدف المقاومة الفلسطينية محور نتساريم بقذائف الهاون، فما الأهمية الاستراتيجية لهذا المحور؟

future أحد عناصر الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة يطلق قذائف الهاون في عرض تدريبي مايو 2015

في مفصل حيوي يتحكم في اتصال مدينة غزة في شمال القطاع، بالمحافظة الوسطى إلى الجنوب منها، تقع نتساريم. فُكِّكَت مستوطنة نتساريم في شهر أغسطس من عام 2005، وانطوى ذكرها، حتى تجدَّد بقوة مع حرب الإبادة الإسرائيلية الحالية ضد قطاع غزة انتقامًا من هجوم السابع من أكتوبر 2023 الجريء، الذي اجتاحت خلاله كتائب القسام قواعد العدو ومواقعه ومستوطناته في غلاف غزة، والذي كان يحيط بالقطاع كإحاطة السوار الإلكتروني بمعصم أحد معتقلي جوانتنامو.

يعشق العدو الإسرائيلي الرمزيات، ويحيط نفسه دائمًا بهالاتٍ أخَّاذة منها، ولهذا فلا غرْوَ أن يختار اسم محور نتساريم لتلك المنطقة العازلة التي يحتلها منذ مطلع نوفمبر 2023 في الخاصرة الضعيفة لقطاع غزة، والتي تفصل شمال القطاع عن جنوبه، وكانت مستوطنة نتساريم توجد فيها. ولكن لسوء حظ العدو، فالرمزيات في غزة التي حاصرت حصارها، تحمل الوجهيْن؛ فنتساريم التي تحمل للعدو معنى العودة بقوة إلى غزة، تحمل أيضًا ذكريات الرحيل الاختياري الإجباري عن القطاع المقاوم عام 2005، عندما اختار جنرال إسرائيل الأشهر «أرئيل شارون» تحت وطأة ضربات المقاومة التي لم تنقطع في غزة على مدى 4 عقود أو أكثر، أن يحاول الحصول على مزايا احتلال غزة دون دفع الثمن الباهظ بشريًّا واقتصاديًّا، فأخرج الوجود الصهيوني بجميع أشكاله من داخل القطاع إلى محيطه.

يبدأ محور نتساريم من غرب كيبوتس «بئيري» على الحدود الشرقية لقطاع غزة جنوبي شرق مدينة غزة، إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط جنوبي غرب مدينة غزة غربًا، بطول حوالي سبعة كيلومترات. هناك تقاطعان مهمان لمحور نتساريم الذي أنشأه العدو؛ أحدهما إلى جهة الشرق، وهو التقاطع مع محور صلاح الدين الذي يمر بطول قطاع غزة من الجنوب إلى الشمال، والآخر إلى الغرب قرب شاطئ البحر، وهو التقاطع مع شارع الرشيد الساحلي. أنشأ العدو على الأقل معسكريْن كبيريْن نسبيًّا وحاجزًا عسكريًّا على هذيْن التقاطعين لتأمينهما، للتأكيد على المهمة الرئيسة لهذا المحور، وهي التحكم في حركة سكان قطاع غزة بين الجنوب والشمال، لتكريس حصار وعزل مدينة غزة والشمال، واستخدام هذا كورقة سياسية مهمة في المفاوضات.

إلى الجنوب الشرقي من المحور، توجد منطقتا جحر الديك والمغراقة، أما مدينتا الزهراء والأسرى فتحدانه من جنوبه الأوسط وجنوبه الغربي، أما حي الزيتون فله المساحة الكبرى من حدوده الشمالية، أما الجهة الشمالية الغربية فتجاوره منها منطقتا الصبرة والشيخ عجلين. وشهدت جميع تلك المناطق شهورًا من الاجتياح البري الواسع والقصف الإسرائيلي الوحشي، وتهجير الكثير من السكان، وعشرات القتلى من قوات العدو ومئات الجرحى، وذلك ليستطيع العدو تأمين تواجده في هذا المحور.

المستوطنات: المبدأ والمُنتَهى

الدعوات إلى استيطان اليهود لفلسطين لم تكن وليدة لحظة الحرب العالمية الأولى والاحتلال الإنجليزي لفلسطين عام 1917؛ إذ ذكر «عيسى فاضل النزال» في الفصل الأول من كتابه «الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة» أن فكرة استيطان اليهود في أرض فلسطين ظهرت في كتابات بعض الشخصيات اليهودية منذ القرن السابع عشر الميلادي، وأشار إليها نابليون بونابرت في أواخر القرن الثامن عشر إبان حملته العسكرية الشهيرة في فلسطين انطلاقًا من مصر، والتي توقفت عند أسوار عكا، لكنها لم تبدأ في التحول إلى فعلٍ في الواقع إلا مع ضعف الدولة العثمانية المسيطرة على فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين.

كانت المستوطنات ولا تزال هي رأس حربة المشروع الصهيوني الاستعماري الاستئصالي الإحلالي في فلسطين التاريخية وجوارها، فكل مستوطنة تمثل كيانًا عسكريًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا قويًّا وقادرًا؛ إذ ينتج المستوطنون ما ينتجون زراعة أو صناعة، ويتدربون على استخدام السلاح، ويتناوشون مع المحيط الفلسطيني ويحصِّلون المزيد من المكاسب على الأرض، وتمثل مستوطناتهم الحصينة قلاعًا دفاعية ضد الهجمات، ونقاط انطلاق لهجمات العدو وتوغلاته داخل المدن والبلدات الفلسطينية.

كان لقطاع غزة بعد احتلاله إثر هزيمة يونيو/حزيران 1967، نصيبه الخاص من الاستيطان، والذي كان البُعد الأمني فيه حاضرًا كما البعد الديني. يذكرُ «عيسى النزال» في الفصل الذي خصَّصه لمستوطنات غزة في كتابه المذكور آنفًا عن الاستيطان الإسرائيلي، أن تلك المستوطنات كانت تشكل ثلاثة أحزمة أمنية رئيسة، أحدها يعزل القطاع عن صحراء النقب وعن باقي الداخل المحتل في نقاطٍ عديدة، وكان من أبرز تلك المستوطنات «إيريز» في الشمال الشرقي، والثاني يفصل مدينتيْ خان يونس ورفح جنوب القطاع، ومن أهم مستوطناته موراغ، والثالث وكان الأهم، يعزل مدينة غزة عما يقع إلى جنوبها.

كانت واسطة العقد فيه لدى الصهاينة هي مستوطنة نتساريم التي شُرع في بنائها عام 1972، والتي كانت تضم مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي لقطاع غزة نظرًا لموقعها المحوري الوسيط بين شمال وجنوب القطاع، وكان كبار القادة العسكريين الإسرائيليين يتوافدون عليها لعقد الاجتماعات التي تخص الوضع الأمني في قطاع غزة، مثلما فعل رئيس الأركان آنذاك موشيه يعالون في يونيو/حزيران 2004 بعد سلسلة من عمليات المقاومة الناجحة ضد الجنود والمستوطنين في قطاع غزة.

بلغت مساحة نتساريم في أقصى تمدد لها حوالي 7 كيلومترات مربعة (أكثر من 2% من مجمل مساحة قطاع غزة)، وسكنها أكثر من 500 مستوطن من عتاة التطرف الصهيوني، ينتسب أكثرهم لحركة استيطانية صهيونية دينية متطرفة تسمى هبوعيل همزراحي، تأسست عام 1922، وكان هؤلاء المستوطنون يعتاشون من الزراعة في الأراضي الخصبة بالمستوطنة، ومن تربية الدواجن والحيوانات، وبعض الصناعات الصغيرة.

في هذا التقرير القديم قبل عقدين من الزمن لوكالة الأنباء الفرنسية، تظهر مشاهد من داخل مستوطنة نتساريم، تبدو فيها أشبه بثكنة عسكرية تحرسها قوات من الجيش الإسرائيلي ومستوطنون مسلحون، ويحيط بها حواجز وأسوار عسكرية، تتخللها أبراج للمراقبة، وبداخل توجد بعض المزارع والصوب الزراعية.

تل أبيب في غزة!

لا مبالغة على الإطلاق إذا اعتبرنا أن أرئيل شارون من أهم آباء الاستيطان في تاريخ إسرائيل، عندما تولى شارون قيادة الجبهة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي بعد احتلال قطاع غزة عام 1967 إثر الهزيمة الساحقة التي مُنيَت بها مصر في حرب يونيو/حزيران، فإنه عمد إلى كسر روح المقاومة في قطاع غزة بجميع الوسائل الأمنية وبالهندسة العمرانية والاقتصادية للقطاع، حيث هدم المئات من المنازل، وانتقم بوحشية من المناطق التي كانت تنطلق منها عمليات المقاومة، وأنشأ العديد من الشوارع والطرق الواسعة في قلب المدن والمخيمات لتسهيل ولوج القوات الإسرائيلية إلى أعماقها للمراقبة وللاستهداف. وكان - كما أشرنا - إنشاء البؤر الاستيطانية وتوزيعها في قطاع غزة من أبرز جوانب خطة السيطرة الأمنية على القطاع.

في العام 2002، سُجلت مقولة خالدة لأرئيل شارون عن أن نتساريم عنده كتل أبيب، في إشارة صريحة إلى أنه لا يمكن أن يخطر له ببال الانسحاب منها، فهي عاصمة إسرائيل في قلب قطاع غزة المعادي. لكن لم تمر ثلاث سنوات، تخللها المئات من عمليات المقاومة في غزة بمختلف أنواعها، حتى كان شارون يقدم خطته الشهيرة المعروفة باسم «فك الارتباط أحادي الجانب»، وينسحب من داخل غزة ويفكك المستوطنات لتقليل الأثمان الباهظة للاحتلال، وينتقل إلى حصار غزة الذي استمر ولا يزال قرابة عقدين من الزمان.

كان لنتساريم رمزيتها البالغة في الذهنية الصهيونية الاستيطانية، ولذا فلا غروَ أن كانت آخر المستوطنات التي فكَّكتها حكومة شارون، وتخللت عملية الإخلاء في صيف 2005 ولهيب أغسطس/آب الكثير من الغضب والدموع والمناوشات بين المستوطنين الراحلين وقوات الاحتلال التي صدرت لها أوامر الإخلاء.

سجلت الكاميرات مقاطع خالدة لاندفاع أهالي غزة في انفجارٍ حماسي ومهرجانٍ من مشاعر النشوة إلى داخل نتساريم بعد إخلائها، وشروعهم في إحراق وهدم الكنيس اليهودي الرئيس في قلبها، وما لم يخربه المستوطنون قبل رحيلهم من منشآتها ومعالمها.

وفي هذا التقرير الذي أعدته «فرانس برس» عام 2015، في الذكرى العاشرة لتفكيك شارون لمستوطنات قطاع غزة تنفيذًا لخطة فك الارتباط أحادي الجانب، يظهر كيف استفاد أهل غزة من أراضي نتساريم وغيرها من المستوطَنات، مزارع ووِرشًا، وحتى مقرات لبعض الجامعات.

العودة إلى نتساريم

يحاول التيار الاستيطاني المتطرف في الكيان الصهيوني استغلال حالة الهياج الوجودي التي تسيطر على غالبية الإسرائيليين في أعقاب هجمات السابع من أكتوبر، والترويج من جديد لعودة المستوطنات إلى قلب قطاع غزة، وأن هذا هو الضمان الوحيد لأمن إسرائيل، بل أخذت بعض الشركات الإسرائيلية العاملة في بناء المستوطنات في نشر بعض الإعلانات الاستفزازية عن قرب عودة نشاطها الاستيطاني إلى شواطئ قطاع غزة بعد قرابة 19 عامًا من الرحيل من هناك. لكن هل تمثل عودة الاستيطان إلى غزة خيارًا واقعيًّا للعدو؟ يخبرنا التاريخ أن هذا قد يمثل كارثة أمنية وسياسية واستراتيجية للعدو الصهيوني، فالاستيطان في غزة لم يمر أبدًا مرور الكرام.

إذا بحثنا في ذاكرة القسام، أكبر الفصائل المقاومة في غزة خلال العقود الثلاثة الماضية، فسنجد العشرات من العمليات الفدائية ضد نتساريم الحصينة، لا سيما أثناء الانتفاضتين الأولى والثانية، ولم تكن قدرات ولا خبرات المقاومة بمعشار ما هي عليه الآن. 

قبل 23 عامًا بالتمام على كتابتي لتلك الأسطر كان أحد استشهاديي القسام يُفجِّر نفسه يوم 25 مايو 2001 بسيارة مفخخة في دبابة صهيونية في مستوطنة نتساريم. وفي يوم 28 سبتمبر من العام نفسه فجر مقاتلو القسام عبوة ناسفة في حافلة للمستوطنين وجيب عسكري إسرائيلي في نتساريم مما أسفر عن مصرع جندي، وإصابة مستوطن بإصابة خطرة. وفي يوم 24 أكتوبر 2003، قاد الشهيد القسامي سمير فودة ابن مخيم جباليا عددًا من فدائيي القسام وسرايا القدس، واقتحموا موقعًا عسكريًّا ملاصقًا لنتساريم فقتلوا ثلاثة جنود وأصابوا آخرين. وفي التاسع والعشرين من سبتمبر 2004، قصف القسام نتساريم بعدة قذائف صاروخية فأصيب خمسة جنود، اثنان منهم بإصابات خطرة. واقتحم الفدائيون تلك المستوطنة بالغة التحصين مراتٍ عدة، وأوقعوا العشرات من الجنود والمستوطنين بين قتيل وجريح.

والآن، على مدى الأشهر الماضية، لا يكاد يمر يوم دون أن تستهدف فصائل المقاومة محور نتساريم برشقةٍ صاروخية، أو باستهداف بقذائف الهاون من مختلف الأعيرة، رغم احتدام المعارك في مناطق ملتهبة أخرى في القطاع، مثل منطقة معسكر جباليا وشرق ووسط مدينة رفح. وقد ذكرت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية أن محور نتساريم قد أصبح مغنطيسًا جاذبًا لهجمات المقاومة في غزة، رغم أنها قللت من مدى تأثير تلك الهجمات عسكريًّا وسياسيًّا.

# قطاع غزة # المقاومة الفلسطينية # الحرب على غزة # شئون عسكرية

بين جوديث بتلر وأرييه أليمي: كيف نقيم أخلاق المقاومة؟
فارس السماء: «محمود فارس» مهندس مسيَّرات طوفان الأقصى
دراما المقاومة: الفن والسلاح في خندق واحد

فلسطين